تحدق صباح أبو حليمة وهي تتأرجح من الأمام إلى الوراء فوق سرير المستشفى معددة مصير أطفالها التسعة واحدا واحدا.
"عابد ابن الأربعة عشر ربيعا قطع رأسه، شهد بنت الخمسة عشر شهرا كانت بين ذراعي عندما تخطفتها النيران..."
وتشرح صباح كيف لقي زوجها وأربعة من أبناءها حتفهم عندما قصف منزلهم شمالي غزة خلال العمليات العسكرية التي شنها الإسرائيليون مؤخرا.
الآن تغرق غرف هذا المنزل الخالية في الظلام وسواد الحريق، كما ذابت مفاتيح الكهرباء.
من سقف الدهليز ينزل شعاع من الضوء متسربا بين عش من القضبان الحديدية المعوجة التي تدل على مكان ارتطام أحد الصواريخ.
وعلى أحد جدران غرفة النوم كتب بخط ردئ: "هذا من قوات الدفاع الإسرائيلية، نحن آسفون."
لكن على الجدار المواجه لاتزال آثار بياض، ويقول لنا محمود إبن صباح البالغ من العمر عشرين سنة إنها آثار كتابة محاها غضبا كانت تقول " ملابس داخلية رائعة."
"حروق غريبة"
قتل المئات خلال الهجوم الإسرائيلي الذي استغرق 22 يوما، لكن ما يسترعي الانتباه هو الطريقة التي قتل بها أفراد أسرة صباح والسلاح المستخدم.
صباح نفسها تعاني من حروق قظيعة وجد مؤلمة في ذراعيها، وساقيها وصدرها.
وتقول صباح: " كان هناك نار ودخان أبيض، لقد أذاب الصاروخ أبنائي، لقد ذابت كنتي أمام ناظري".
ويقول الدكتور نافذ أبو شعبان رئيس الوحدة حيث تعالج صباح إنه عاين العديد من الضحايا وعليهم "حروق غريبة".
ويوضح أبو شعبان قائلا: "الحروق بليغة، وعميقة، وتصير أعمق وتستفحل، وفي بعض الأحيان ينبعث الدخان من الجرح حتى بعد ساعات من الإصابات."
ويعتقد استنادا إلى المسؤولين الطبيين أن هذه الصنف من الجروح ناجم عن استخدام قذائف تحتوي على الفوسفور الأبيض.
أسلحة حرائق
في جزء آخر من المدينة قرب مجمع أمني سابق سوي بالأرض، يشير مارك غارلاسكو، كبير المحللين العسكريين لدى منظمة هيومن رايتس ووتش، إلى أدلة على استخدام الفوسفور الأبيض.
ويقول: "نحن هنا بالقرب من M825A1 وهو الرمز الأمريكي لقذائف الفوسفور الأبيض. لقد صنعت في الولايات المتحدة وبيعت لإسرائيل القذيفة هنا لم تنفج، على الرغم من كونها متصدعة".
ويضيف قائلا: "تجد كذلك قطعا من لباد الفوسفور الأبيض في المنطقة. ما أن تنفجر القذيفة في الهواء حتى تتطاير منها 116 قطعة لباد من الفوسوفور الأبيض تتساقط على منطقة واسعة. هذه القطع تغطي هذه الجهة. وإذا ركلت واحدة منها سينبعث منها دخان أبيض وقد تلتهب مجددا."
وعلى الرغم من أن هذا الصنف من الذخيرة مثير للجدل، فإنه غير نحظور، على الأقل في ميدان قتال مفتوح، حيث يستخدم لإخفاء تحرك الجنود، أو إضرام النار في أحراش للتخلص منها.
لكن المعاهدة الدولية الخاصة بالذخيرة المتسببة في حرائق تقول إنه لاينبغي استخدامها حيث هناك إمكانية لإصابة المدنيين.
وتلتصق المواد الكيميائية التي يصنع منها هذا النوع من الذخيرة بالجلد البشري وتتوغل داخل اللحم حتى تبلغ العظم متسببة إما في الموت وإما في جروح بليغة الشفاء منها بطيء.
ويقول مسؤولون في الأمم المتحدة إن الفوسفور الأبيض استخدم لقصف مدرسة التجأ إليها المئات من المدنيين فرارا من المعارك، وكذلك مقرها في غزة.
ويقول شهود عيان وضحايا إنها استخدمت لقصف مواقع مدنية.
تحقيق داخلي
يقول الخبراء إن "الضفائر" البيضاء المميزة دليل على استخدام الفوسفور الأبيض
وبعد أن أنكرت إسرائيل استخدام هذا الصنف من الذخيرة في البداية اعترف عدد من المسؤولين العسكريين بعكس ذلك الآن.
وقال الجيش إنه قد بدأ تحقيقا داخليا، علما بأن الموقف الرسمي لحد الآن هو أن القوات الإسرائيلية لم تستخدم أي سلاح محظور.
في هذه الأثناء بدأت المنظمات المعنية بحقوق الإنسان تحقيقاتها الخاصة.
ويقول غارلاسكو من الضروري أن نجري تحقيقا في استخدام الفوسفور الأبيض، لأنه يبدو أنه استخدم بطريقة خاطئة في انتهاك ضارخ لمعاهدات جنيف."
وأردف قائلا: " على الرغم من خطورة الجروح التي يتسبب فيها الفوسفور الأبيض، فقد استخدمت أصناف أخرى من الأسلحة تلحق خسائر بشرية أفدح وأبشع. لذا على التحقيق أن يكون شاملا حتى نتأكد من الطريقة التي استخدمت بها كل أصناف العتاد والذخيرة وكيف أثرت على المدنيين